فصل: (عبس: الآيات 11- 16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[عبس: الآيات 11- 16]

{كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)}.
{كَلَّا} ردع عن المعاتب عليه، وعن معاودة مثله {إِنَّها تَذْكِرَةٌ} أى موعظة يجب الاتعاظ والعمل بموجبها {فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ} أى كان حافظا له غير ناس، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ {فِي صُحُفٍ} صفة لـ: {تذكرة}، يعنى: أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح {مُكَرَّمَةٍ} عند اللّه {مَرْفُوعَةٍ} في السماء. أو مرفوعة المقدار {مُطَهَّرَةٍ} منزهة عن أيدى الشياطين، لا يمسها إلا أيدى ملائكة مطهرين {سَفَرَةٍ} كتبة ينتسخون الكتب من اللوح {بَرَرَةٍ} أتقياء.
وقيل: هي صحف الأنبياء، كقوله: {إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى} وقيل السفرة: القراء.
وقيل: أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

.[عبس: الآيات 17- 23]

{قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)}.
{قُتِلَ الْإِنْسانُ} دعاء عليه، وهي من أشنع دعواتهم، لأنّ القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها. و{ما أَكْفَرَهُ} تعجب من إفراطه في كفران نعمة اللّه، ولا ترى أسلوبا أغلظ منه. ولا أخشن مسا، ولا أدل على سخط، ولا أبعد شوطا في المذمة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للأئمة على قصر متنه ثم أخذ في وصف حاله من ابتداء حدوثه، إلى أن انتهى وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها، وما هو غارز فيه رأسه من الكفران والغمط وقلة الالتفات إلى ما يتقلب فيه وإلى ما يجب عليه من القيام بالشكر {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} من أى شيء حقير مهين خلقه، ثم بين ذلك الشيء بقوله: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} فهيأه لما يصلح له ويختص به. ونحوه {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}. نصب {السبيل} بإضمار (يسر) وفسره بـ: {يسره} والمعنى: ثم سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمّه. أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقى الخير والشر بإقداره وتمكينه، كقوله: {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ} وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: بين له سبيل الخير والشر {فَأَقْبَرَهُ} فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله مطروحا على وجه الأرض جزرا للسباع والطير كسائر الحيوان.
يقال: قبر الميت إذا دفنه. وأقبره الميت. إذا أمره أن يقبره ومكنه منه. ومنه قول من قال للحجاج: أقبرنا صالحا {أَنْشَرَهُ} أنشأه النشأة الأخرى. وقرئ: {نشره} {كَلَّا} ردع للإنسان عما هو عليه {لَمَّا يَقْضِ} لم يقض بعد، مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية {ما أَمَرَهُ اللّه} حتى يخرج عن جميع أوامره، يعنى: أنّ إنسانا لم يخل من تقصير قط.

.[عبس: الآيات 24- 32]

{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طعامه (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)}.
ولما عدد النعم في نفسه: أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه، فقال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طعامه} إلى مطعمه الذي يعيش به كيف دبرنا أمره {أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ} يعنى الغيث. قرئ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح على البدل من الطعام. وقرأ الحسين بن على رضي اللّه عنهما. {أنى صببنا}، بالإمالة على معنى: فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء. و{شققنا}: من شق الأرض بالنبات ويجوز أن يكون من شقها بالكراب على البقر، وأسند الشك إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب. والحب: كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما. والقضب: الرطبة.
والمقضاب: أرضه، سمى بمصدر قضبه إذا قطعه، لأنه يقضب مرّة بعد مرّة {وَحَدائِقَ غُلْباً} يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها، كما تقول: حديقة ضخمة، وأن يجعل شجرها غلبا، أى: عظاما غلاظا. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب، فاستعير.
قال عمرو بن معد يكرب:
يمشى بها غلب الرّقاب كأنّهم ** بزل كسين من الكحيل جلالا

والأب: المرعى، لأنه يؤبّ أى يؤم وينتجع. والأبّ والأمّ: أخوان.
قال:
جذمنا قيس ونجد دارنا ** ولنا الأبّ به والمكرع

وعن أبى بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه سئل عن الأب فقال: أىّ سماء تظلني، وأىّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب اللّه ما لا علم لي به.
وعن عمر رضي اللّه عنه: أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفنا، فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر اللّه التكلف، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدرى ما الأب، ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه.
فإن قلت: فهذا يشبه النهى عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته.
قلت:
لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم، فأراد أنّ الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته اللّه للإنسان متاعا له أو لإنعامه، فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر للّه- على ما تبين لك ولم يشكل- مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن.

.[عبس: الآيات 32- 41]

{مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يوم يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امرئ مِنْهُمْ يومئِذٍ شَأْنٌ يغنيه (37) وُجُوهٌ يومئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يومئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41)}.
يقال: صخّ لحديثه، مثل: أصاخ له، فوصفت النفخة بالصاخة مجازا، لأنّ الناس يصخون لها يَفِرُّ منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا، وبدأ بالأخ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أقرب وأحب، كأنه قال: يفرّ من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه.
وقيل: يفرّ منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات.
يقول الأخ: لم تواسنى بمالك. والأبوان: قصرت في برنا. والصاحبة: أطعمتنى الحرام وفعلت وصنعت. والبنون: لم تعلمنا ولم ترشدنا، وقيل: أوّل من يفرّ من أخيه: هابيل، ومن أبويه:
إبراهيم ومن صاحبته: نوح ولوط، ومن ابنه: نوح يغنيه يكفيه في الاهتمام به. وقرئ: {يعنيه} أى يهمه {مُسْفِرَةٌ} مضيئة متهللة، من أسفر الصبح: إذا أضاء.
وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: من قيام الليل، لما روى في الحديث «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار»، وعن الضحاك: من آثار الوضوء.
وقيل: من طول ما اغبرت في سبيل اللّه {غَبَرَةٌ} غبار يعلوها {قَتَرَةٌ} سواد كالدخان، ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما ترى من وجوه الزنوج إذا اغبرت، وكأن اللّه عز وجل يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة، كما جمعوا الفجور إلى الكفر.
عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {عبس وتولى أنْ جاءه الأَعْمَى}
روى سعيد عن قتادة أن ابن أم مكتوم، وهو عبد الله بن زائدة من بني فهر، وكان ضريراً، أتى رسول الله رسول الله صلى الله عليه سلم يستقرئه وهو يناجي بعض عظماء قريش- وقد طمع في إسلامهم- قال قتادة: هو أمية بن خلف، وقال مجاهد: هما عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمى وعبس في وجهه، فعاتبه الله تعالى في إعراضه وتوليه فقال: {عبس وتولى} أي قطّب واعرض {أن جاءه الأعمى} يعني ابن ام مكتوم.
{وما يُدريك لعله يَزَّكى} فيه أربعة أوجه:
أحدها: يؤمن، قاله عطاء.
الثاني: يتعبد بالأعمال الصالحة، قاله ابن عيسى.
الثالث: يحفظ ما يتلوه عليه من القرآن، قاله الضحاك.
الرابع: يتفقه في الدين، قاله ابن شجرة.
{أوْ يذكر فتنفعه الذّكْرَى} قال السدّي: لعله يزّكّى ويذكر، والألف صلة، وفي الذكرى وجهان:
أحدها: الفقه.
الثاني: العظة.
قال ابن عباس: فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إليه مقبلاً بسط له رداءه حتى يجلس عليه إكراماً له.
قال قتادة: واستخلفه على صلاة الناس بالمدينة في غزاتين من غزواته، كل ذلك لما نزل فيه.
{كلاّ إنّها تَذْكِرةٌ} فيه وجهان:
أحدهما: أن هذه السورة تذكرة، قاله الفراء والكلبي.
الثاني: أن القرآن تذكرة، قاله مقاتل.
{فَمَن شَاءَ ذكَرَهُ} فيه وجهان:
أحدهما: فمن شاء الله ألهمه الذكر، قاله مقاتل.
الثاني: فمن شاء أن يتذكر بالقرآن أذكره الله، وهو معنى قول الكلبي.
{في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: {مكرمة} عند الله، قاله السدي.
الثاني: {مكرمة} في الدين لما فيها من الحكم والعلم، قاله الطبري.
الثالث: لأنه نزل بها كرام الحفظة.
ويحتمل قولاً رابعاً: أنها نزلت من كريم، لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه.
{مرفوعةٍ} فيه قولان:
أحدهما: {مرفوعة} في السماء، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: {مرفوعة} القدروالذكر، قاله الطبري.
ويحتمل قولاً ثالثاً: {مرفوعة} عن الشُبه والتناقض.
{مُطَهّرةٍ} فيه أربعة أقاويل:
أحدهأ: من الدنس، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: من الشرك، قاله السدي.
الثالث: أنه لا يمسها إلا المطهرون، قاله ابن زيد.
الرابع: {مطهرة} من أن تنزل على المشركين، قاله الحسن.
ويحتمل خامساً: لأنها نزلت من طاهر مع طاهر على طاهر.
{بأيْدِى سَفَرَةٍ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن السفرة الكتبة، قاله ابن عباس، قال المفضل: هو مأخوذ من سفر يسفر سفراً، إذا كتب، قال الزجاج: إنما قيل للكتاب سِفْر وللكاتب سافر من تبيين الشيء وإيضاحه، كما يقال أسفر الصبح إذا وضح ضياؤه وظهر، وسفرت المرأة إذا كشفت نقابها.
الثاني: أنهم القراء، قال قتادة لأنهم يقرؤون الأسفار.
الثالث: هم الملائكة، لأنهم السفرة بين يدي الله ورسله بالرحمة، قال زيد، كما يقال سَفَر بين القوم إذا بلغ صلاحاً، وأنشد الفراء:
وما أدَعُ السِّفارةَ بين قوْمي ** وما أَمْشي بغِشٍ إنْ مَشَيْتُ

{كِرام بَرَرةٍ} في الكرام ثلاثة أقاويل:
أحدها: كرام على ربهم، قاله الكلبي.
الثاني: كرام عن المعاصي فهم يرفعون أنفسهم عنها، قاله الحسن.
الثالث: يتكرمون على من باشر زوجته بالستر عليه دفاعاً عنه وصيانة له، وهو معنى قول الضحاك.
ويحتمل رابعاً: أنهم يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم.
وفي {بررة} ثلاثة أوجه:
أحدها: مطيعين، قاله السدي.
الثاني: صادقين واصلين، قاله الطبري.
الثالث: متقين مطهرين، قاله ابن شجرة.
ويحتمل قولاً رابعاً: أن البررة مَن تعدى خيرهم إلى غيرهم، والخيرة من كان خيرهم مقصوراً عليهم.
{قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَه} في {قتل} وجهان:
أحدهما: عُذِّب.
الثاني: لعن.
وفي {الإنسان} ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه إشارة إلى كل كافر، قاله مجاهد.
الثاني: أنه أمية بن خلف، قاله الضحاك.
الثالث: أنه عتبة بن أبي لهب حين قال: إني كفرت برب النجم إذا هوى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهم سلّطْ عليه كلبك» فأخذه الأسد في طريق الشام، قاله ابن جريج والكلبي.
وفي {ما أكْفَرَه} ثلاثة أوجه:
أحدها: أن {ما} تعجب، وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: أعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا.
الثاني: أي شيء أكفره، على وجه الاستفهام، قاله السدي ويحيى بن سلام.
الثالث: ما ألعنه، قاله قتادة.
{ثم السبيلَ يَسّرَهُ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: خروجه من بطن أمه، قاله عكرمة والضحاك.
الثاني: سبيل السعادة والشقاوة، قاله مجاهد.
الثالث: سبيل الهدى والضلالة، قاله الحسن.
ويحتمل رابعاً: سبيل منافعه ومضاره.
{ثُمَّ أَماتَهُ فأَقْبَرَهُ} فيه قولان:
أحدهما: جعله ذا قبر يدفن فيه، قاله الطبري، قال الأعشى:
لو أسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ** عاشَ ولم يُنْقلْ إلى قابر

الثاني: جعل من يقبره ويواريه، قاله يحيى بن سلام.
{ثُمَّ إذا شاءَ أَنشَرَهُ} يعني أحياه، قال الأعشى:
حتى يقول الناسُ مما رأوْا ** يا عجباً للميّت الناشِرِ

{كلاّ لّما يَقْضِ ما أَمَرَهُ} فيه قولان:
أحدهما: أنه الكافر لم يفعل ما أمر به من الطاعة والإيمان، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: أنه على العموم في المسلم والكافر، قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه، وكلاّ ها هنا لتكرير النفي وهي موضوعة للرد.
ويحتمل وجه حمله على العموم أن الكافر لا يقضيه عمراً، والمؤمن لا يقضيه شهراً.
{فَلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طعامه} فيه وجهان:
أحدهما: {إلى طعامه} الذي يأكله وتحيا نفسه به، من أي شيء كان، قاله يحيى.
الثاني: ما يخرج منه أي شيء كان؟ ثم كيف صار بعد حفظ الحياة وموت الجسد.
قال الحسن: إن ملكاً يثني رقبة ابن آدم إذا جلس على الخلاء لينظر ما يخرج منه.
ويحتمل إغراؤه بالنظر إلى وجهين:
أحدهما: ليعلم أنه محل الأقذار فلا يطغى.
الثاني: ليستدل على استحالة الأجسام فلا ينسى.
{أنّا صَبَبْنا الماءَ صبّاً} يعني المطر.
{ثم شَقَقْنا الأرضَ شقّاً} يعني بالنبات.
{فَأَنْبَتْنَا فيها حبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً} والقضب: القت والعلق سمي بذلك لقضبه بعد ظهوره.
{وزَيْتوناً ونخْلاً وحدائقَ غُلْباً} فيه قولان:
أحدهما: نخلاً كراماً، قاله الحسن.
الثاني: الشجر الطوال الغلاظ، قال الكلبي: الْغلب الغِلاط، قال الفرزدق:
عَوَى فأَثارَ أغْلَبَ ضَيْغَميّاً ** فَوَيْلَ ابنِ المراغةِ ما استثار

وفي (الحدائق) ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها ما التف واجتمع، قاله ابن عباس.
الثاني: أنه نبت الشجر كله.
الثالث: أنه ما أحيط عليه من النخل والشجر، وما لم يحط عليه فليس بحديقة حكاه أبو صالح.
ويحتمل قولاً رابعاً: أن الحدائق ما تكامل شجرها واختلف ثمرها حتى عم خيرها.
ويحتمل الغُلْب أن يكون ما غلبت عليه ولم تغلب فكان هيناً.
{وفاكهةً وأبّاً} فيه خمسة أقاويل:
أحدها: أن الأبّ ما ترعاه البهائم، قاله ابن عباس: وما يأكله الآدميون الحصيدة، قال الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
له دعوة ميمونة ريحها الصبا ** بها يُنْبِتُ الله الحصيدة والأَبّا

الثاني: أنه كل شيء ينبت على وجه الأرض، قاله الضحاك.
الثالث: أنه كل نبات سوى الفاكهة، وهذا ظاهر قول الكلبي.
الرابع: أنه الثمار الرطبة، قاله ابن أبي طلحة.
الخامس: أنه التبن خاصة، وهو يحكي عن ابن عباس أيضاً، قال الشاعر:
فما لَهم مَرْتعٌ للسّوا ** م والأبُّ عندهم يُقْدَرُ

ووجدت لبعض المتأخرين سادساً: أن رطب الثمار هو الفاكهة، ويابسها الأبّ.
ويحتمل سابعاً: أن الأبّ ما أخلف مثل أصله كالحبوب، والفاكهة ما لم يخلف مثل أصله من الشجر.
روي أن عمر بن الخطاب قرأ {عبس وتولى} فلما بلغ إلى قوله تعالى: {وفاكهة وأبّا} قال: قد عرفنا الفاكهة، فما الأبّ؟ ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا هو التكلف وألقى العصا من يده.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم فهم كنبات الزرع بعد دثوره، وتضمن امتناناً عليهم بما أنعم.
{فإذا جاءَتِ الصّاخّةُ} فيها قولان:
أحدهما: أنها النفخة الثانية التي يصيخ الخلق لاستماعها، قاله الحسن، ومنه قول الشاعر:
يُصِيخُ للنْبأَة أَسْماعه ** إصاخَةَ الناشدِ للمُنْشِد

الثاني: أنه اسم من أسماء القيامة، لإصاخة الخلق إليها من الفزع، قاله ابن عباس.
{يوم يَفِرُّ المرءُ مِن أخيه وأُمِّه وابيه وصاحِبتِه وبنيه} وفي فراره منهم ثلاثة أوجه:
أحدها: حذراً من مطالبتهم إياه للتبعات التي بينه وبينهم.
الثاني: حتى لا يروا عذابه.
الثالث: لاشتغاله بنفسه، كما قال تعالى بعده:
{لكل امرئ منهم يومئذ شأنٌ يغنيه} أي يشغله عن غيره.
{وجوهٌ يومئذٍ مُسفِرةٌ} فيه وجهان:
أحدهما: مشرقة.
الثاني: فرحة، حكاه السدي.
{ضَاحكةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} يحتمل وجهين:
أحدهما: {ضاحكة} من مسرة القلب.
الثاني: {ضاحكة} من الكفار شماتة وغيظاً، {مستبشرة} بأنفسها مسرة وفرحاً.
{ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرَةٌ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه غبار جعل شيناً لهم ليتميزوا به فيعرفوا.
الثاني: أنه كناية عن كمد وجوههم بالحزن حتى صارت كالغبرة.
{ترْهقُها قَتَرةٌ} فيه خمسة أقاويل:
أحدها: تغشاها ذلة وشدة، قاله ابن عباس.
الثاني: خزي، قال مجاهد.
الثالث: سواد، قاله عطاء.
الرابع: غبار، قاله السدي، وقال ابن زيد: القترة ما ارتفعت إلى السماء والغبرة: ما انحطت إلى الأرض.
الخامس: كسوف الوجه، قاله الكلبي ومقاتل.
{أولئك هم الكَفَرَةُ الفَجرَةُ} يحتمل جمعه بينهما وجهين:
أحدهما: أنهم الكفرة في حقوق الله، الفجرة في حقوق العباد.
الثاني: لأنهم الكفرة في أديانهم، الفجرة في أفعالهم. اهـ.